علي حيدر
الإثنين 29 أيلول 2025
تحاول إسرائيل الانتقال بالعقوبات إلى مستوى آخر لتثبيت نتائج الحرب (أ ف ب)
على امتداد سنوات طويلة، مثّلت العقوبات الدولية على إيران ركناً ثابتاً في المفهوم الاستراتيجي لصانعي القرار في إسرائيل. فلم يُنظر إليها كأداة اقتصادية فحسب، بل اعتُبرت ورقة ضغط استراتيجية متعدّدة الوظائف، يمكنها حرمان طهران من موارد قوّتها، ومحاصرة طموحاتها في مجالات التطوير العسكري والنووي والصاروخي، والعمل، في الوقت ذاته، على إعادة تشكيل البيئة الإقليمية المحيطة بها.
ولعلّ من أبرز ما وسم المقاربة الإسرائيلية في هذا المجال، ديناميّتها ومرونتها؛ فهي ليست واحدة جامدة، بل تتبدّل رهاناتها وأهدافها بحسب تغيّر الظروف الدولية، وتلك الداخلية الإيرانية، وحصيلة المواجهات العسكرية والسياسية في المنطقة. وبذلك، تحوّلت العقوبات إلى عنصر يتداخل فيه الأمن القومي بالسياسة الخارجية، بحيث يصعب أحياناً فصل الأبعاد الاقتصادية عن نظيرتها السياسية والنفسية.
في مرحلة ما قبل الاتفاق النووي، كانت تل أبيب ترى في العقوبات طوقاً أساسياً يحدّ من التطوُّر العام لطهران، ويمنعها - على نحو خاص - من المضيّ في برنامجَيها النووي والعسكري. وقد ساد اعتقاد وقتذاك بأن تشديد العقوبات القاسية، كفيل بإرغام إيران على تقديم تنازلات جوهرية، أو التراجع عن مشروعها؛ لا بل إن بنيامين نتنياهو - شخصياً - راهن على أن الضغط الاقتصادي المكثّف قد يؤدّي إلى تصدّع النظام من الداخل. ولعلّ هذا الاعتقاد هو ما منح العقوبات طابعاً استراتيجياً فاق، في نظر إسرائيل، أيّ خيار تفاوضي، وأضفى عليها وظيفة ردعية تتجاوز حدود الاقتصاد لتلامس العمق السياسي والرمزي للنظام الإيراني.
مع توقيع الاتفاق النووي لعام 2015، وما تلاه من أحداث وتطورات وصولاً إلى انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الصفقة عام 2018، روّجت تل أبيب علناً لبديل وحيد، هو العودة إلى سياسة العقوبات، بوصفها السبيل الأمثل لإجبار إيران على تعديل خياراتها الاستراتيجية، بدلاً من الانخراط في تسوية طويلة الأمد معها. وعقب وصول ترامب إلى البيت الأبيض، واعتماده سياسة «الضغوط القصوى»، التي اقتضت توسيع العقوبات إلى قطاعات المال والطاقة والشحن ومجالات عمل «الحرس الثوري» لتجفيف مصادر قوّة إيران، وجدت إسرائيل فرصة ذهبية لترجمة مقاربتها.
الإفراط في العقوبات ربّما يدفع إيران إلى توسيع ردودها غير التقليدية في الإقليم
اليوم، وبعد حرب الأيام الـ12، تحاول إسرائيل الانتقال بالعقوبات إلى مستوى آخر يتجاوز منع التخصيب أو تقليص برنامج الصواريخ، إلى تثبيت نتائج الحرب نفسها؛ إذ تعتبر أنها لم تحقّق كل أهدافها، وأن ثمّة خطراً حقيقيّاً متمثّلاً بأن تعيد إيران بناء برنامجَيها النووي والصاروخي، مستفيدةً من عِبر المواجهة. لذا، تُطرح العقوبات حالياً كإطار شامل يربط بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وذلك بغرض تحقيق جملة أهداف، لعلّ أبرزها ما يلي: تجفيف الموارد المالية للجمهورية الإسلامية، تقييد خياراتها الداخلية عبر مفاقمة الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات الاجتماعية، نزع الشرعية عن النظام من الداخل عبر تضخيم كلفة سياساته أمام الرأي العام وإبراز الرابط بين نشاط طهران الإقليمي ومعاناة شعبها، وتعزيز الاصطفاف الأميركي - الإسرائيلي من خلال توظيف العقوبات كأداة مشتركة لإعادة رسم قواعد اللعبة الإقليمية.
ومما يجعل العقوبات أكثر إلحاحاً بعد الحرب، اعتقاد إسرائيل بأن أمام إيران فترة قصيرة نسبيّاً لإعادة بناء قدراتها، وهو ما يوجب تشديد الحصار عليها - إلى جانب التهويل بإعادة استهدافها -، بالاستفادة مما أفرزته المواجهة الأخيرة من إعادة للملفّ الإيراني إلى صدارة الاهتمام الدولي، وفتح للباب أمام تعبئة أوسع في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي، مقابل تضييقٍ لهامش المناورة لدى حلفاء إيران الإقليميين.
غير أن المقاربة تلك، وعلى رغم اتّساقها الظاهري، تحمل في طيّاتها تحدّيات ومفارقات؛ إذ لم يَظهر في إسرائيل، إلى الآن، صوت نافذ يشكّك في جدوى الرهان على العقوبات، على الرغم من التجربة التي أثبتت قدرة إيران على التكيّف وابتكار بدائل، فضلاً عن أن السياق الدولي الراهن يختلف كثيراً عمّا كان عليه في ذروة العقوبات السابقة، أو في مرحلة الاتفاق النووي. كذلك، فإن الإفراط في العقوبات ربّما يدفع إيران إلى توسيع ردودها غير التقليدية في الإقليم، وتعزيز الالتفاف الشعبي حول النظام بدلاً من إضعافه، خصوصاً إذا ما جرى تصوير الحصار على أنه امتداد للحرب العدوانية الأخيرة ومحاولة لإسقاط النظام بوسائل غير عسكرية. وبهذا المعنى، فإن إيران تراهن على صمود منظومتها الداخلية وقدرتها على نقل المواجهة إلى ساحات أخرى.
بالنتيجة، يتأكد أن مرحلة ما بعد حرب الاثني عشر يوماً ليست استمراراً للمراحل السابقة، بل لحظة مفصلية يراد لها أن ترسم الإطار الجديد للصراع: منع انتعاش إيران اقتصادياً وعسكرياً، وتحويل الضغط عليها إلى أداة تفاوضية أشدّ وطأة. وهنا، تكمن المفارقة الاستراتيجية؛ إذ إن الأداة التي يُعوَّل عليها لترجيح كفّة الصراع لصالح أميركا وإسرائيل، إنما تحمل في طياتها مخاطر ارتدادية ربما تُعيد تشكيل البيئة الإقليمية بطريقة مختلفة عما تتطلّع إليه واشنطن وتل أبيب.